ما علاقة مرجئة الفقهاء في إعذار أهل البدع والتشغيب في ضلالهم التي شغب ولجلج حولها صاحب الكشف البيان
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله
أمابعد :
فهذا إكمال ما جاء عن الدكتور إبراهيم ـ أصلحه الله ـ في بيانه الجائر وتشغيبه البائر
قال في ( ص 31 ) : (( فمما شنع به الدكتور محمد بن هادي تبعا للشيخ عبيد : عدم تبديعي مرجئة الفقهاء ونقل عدم التبديع عن السلف ....
أن سياق الكلام الذي ذكرت فيه العبارتين السابقتين كان في مقام التحذير من التشديد في التبديع وإخراج بعض أهل السنة بمجرد بعض أخطائهم في الاجتهاد ـ كما شاع هذا المنهج بين بعض المنتسبين للسنة ـ ثم مثلت بمخالفة بعض الفقهاء لأهل السنة في باب الإيمان وهم مرجئة الفقهاء وأن أهل السنة لم يبدعوهم بذلك ، أعني أن الذي أفضى إليه أمر أهل السنة عد مرجئة الفقهاء من أهل السنة والجماعة ....
فظاهر من هذا السياق أن الكلام أصلا ليس في تحرير حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء وإنما من باب الاستشهاد بخطئهم في هذا الباب كما أخطأ غيرهم من الأئمة .
وأما في سياق تحرير هذه المسألة فقد بينت في بعض كتبي ودروسي حقيقة الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة وأن مرجئة الفقهاء موافقون للمرجئة في إخراج العمل من حقيقة الإيمان وأن الخلاف بين أهل السنة حقيقي ...
إلى أن قال ( ص 33 ـ 34 ) : ثم ذكرت أن أول من أنكر إطلاق هذه العبارة الحداد وذلك في قوله : " ومن ذلك من يقول : مرجئة الفقهاء أهل السنة فاحذروا الافتراء "
وقد رد عليه الشيخ ربيع المدخلي وذكر أن الحداد إنما قصد بالتشنيع في عبارته هذه التشنيع على شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه من العلماء السابقين والمعاصرين قال الشيخ ربيع " من يقصد الحداد بِهذا الكلام الظالم الجريء , إنه يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية بالقصد الأول ثم علماء أهل السنة الذين يقولون بهذا القول من السابقين والمعاصرين .
قد يساورك شك في أنه يقصد الإمام ابن تيمية لكن إذا تذكرت أن الحداد نقل كلام ابن تيمية هذا من كتاب الإيمان وإذا علمت أن ابن تيمية عدَّ مرجئة الفقهاء من أهل السنة في الموضوع نفسه الذي قال : إن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وبين أهل السنة لفظي زال عنك الشك "
ثم ذكرت أن ظاهر كلام الشيخ ربيع هذا إقراره إطلاق مرجئة أهل السنة على مرجئة الفقهاء ....
وكذا تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز أن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وسائر أهل السنة ليس خلافا حقيقيا وإنما هو صوري أو لفظي مما يقتضي عدم تبديعهم بهذا .
وبهذا أفتى بعض علمائنا المعاصرين ممن عرفوا بالعلم والورع بعدم خروج مرجئة الفقهاء من دائرة أهل السنة بخطئهم ))
أقول :
قال الحافظ أبوعمر ابن عبدالبر رحمه الله في "جامع بيان العلم وفضله (1 / 576 ـ 577) : (( ومن أدب العالم ترك الدعوى لما لا يحسنه، وترك الفخر بما يحسنه .... وأفضح ما يكون للمرء دعواه بما لا يقوم به، وقد عاب العلماء ذلك قديمًا وحديثًا وقالوا فيه نظمًا ونثرًا فمن ذلك قول أبي العباس الناشئ:
من تحلى بغير ما هو فيه .... عاب ما في يديه ما يدعيه
وإذا حاول الدعاوى لما فيه ... أضافوا إليه ما ليس فيه
ويحسب الذي ادعى ما عداه ... أنه عالم بما يعتريه
ومحل الفتى سيظهر في الناس ... وإن كان ذائبًا يخفيه
ـ وأحسن من قول الناشئ في هذا المعنى قول الآخر:
من تحلى بغير ما هو فيه .... فضحته شواهد الامتحان
وجرى في العلوم جري سكيت ... خلفته الجياد يوم الرهان )) ا.هـ
ويقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ في " صيد الخاطر " ( ص 111) : (( غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس حبس عن إدراك الصواب نعوذ بالله من ذلك )) ا.هـ
فكيف لو أضيف إلى هذا عدم الورع والإنصاف في تحقيق المسائل المتكلم فيها مع إجحاف صواب الطرف الثاني والتكلف والاعتساف في رد الحق الذي قرره خصمه .
وهكذا الدكتور ـ أصلحه الله ـ فما من مسألة أخطأ فيها وجانب فيها منهج أهل السنة والجماعة وبين مشايخنا وجهة الصواب مخالفته فيها إلا و أعرض عنها وعن نصائحهم وكأنهم ما تكلموا ولا بينوا ، بل ما زاد أمره إلا تماديا في الباطل وإصرارا على الخطأ والاستهانة بمن نصحه ، على طريقة ومبدأ ( عنزة ولو طارت ) ، وإلا فمسألة مرجئة الفقهاء وغيرها من المسائل قد بين ووضح مشايخنا الحق فيها والصواب ما خالف فيه الدكتور ، لو كان يحترم الحق وأهله لوقف عنده وعظمه ، أما وأنه أعرض عنه وناصر باطله بتلك التلبيسات والتمويهات التي تحير الذكي وترعشه فضلا عن غيره ، وهو في ذلك قد وجد من يصفق لتلبيساته وينفخ فيها من الحلبي وحزبه وفرحوا بذلك أيما فرح ، فما يكون والحالة هذه إلا تبديدها وكشف عوارها نصرة للحق وإظهار المحجة بعون الله وتوفيقه :
أولا : إن علاج الخصومات والمنازعات التي تقع بين أهل السنة أو بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدعة والفرقة ، تتم بالرجوع والتحاكم إلى الكتاب والسنة لقوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [سورة النساء:59] ، قال تعالى :{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء:65]
لا إلى التقعيدات المخترعة والتأصيلات المصطنعة كهذه التي اصطنعها الدكتور !!
متى سلفنا الصالح احتج ببدعة المرجئة وأهلها على عدم التشنيع والإنكار على من أبتدع وغير وبدل وتغير وتبدل ؟!
ومن قال بذلك من سلفنا الصالح ؟!
وإلا فكتب العقائد و السير والتراجم والتاريخ مليئة بالرد وشدة الإنكار على هؤلاء مرجئة الفقهاء وتبديعهم
قال شيخ الإسلام في " مجموع الفتاوى " (7 / 507) ومن كتاب " الإيمان " ( 331 ـ 332 ) : (( وَأَنْكَرَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ وَدُخُولَ الْأَعْمَالِ فِيهِ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ ؛ وَهَؤُلَاءِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي - إمَامُ أَهْلِ الْكُوفَةِ شَيْخُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ - وَأَمْثَالُهُ ؛ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ : كعلقمة وَالْأَسْوَدِ ؛ فَكَانُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُخَالَفَةً لِلْمُرْجِئَةِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ ؛ لَكِنَّ حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ خَالَفَ سَلَفَهُ ؛ وَاتَّبَعَهُ مَنْ اتَّبَعَهُ وَدَخَلَ فِي هَذَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . ثُمَّ إنَّ " السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ " اشْتَدَّ إنْكَارُهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَبْدِيعُهُمْ وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ فِيهِمْ ؛ وَلَمْ أَعْلَمِ أَحَدًا مِنْهُمْ نَطَقَ بِتَكْفِيرِهِمْ ؛ بل هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ فِي ذَلِكَ ؛ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ : عَلَى عَدَمِ تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْمُرْجِئَةِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ تَكْفِيرًا لِهَؤُلَاءِ ؛ أَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُتَنَازَعِ فِي تَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا عَظِيمًا )) ا.هـ
فتأمل يا أيها القارئ أن شيخ الإسلام يقرر أن ما أحدثه مرجئة الفقهاء بدعة ومن أجل هذا بدعهم السلف الصالح ، وأغلظوا فيهم القول ، وما نسبوا بدعتهم إلى السنة وقالوا عنهم بأنهم : مرجئة أهل السنة
وهذا على خلاف ما قرره قبل ذلك ونقله من " َالْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَمَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ الخطمي وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَقِيلَ لَهُ : وَمَا زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ ؟ فَقَالَ : إذَا ذَكَرْنَا اللَّهَ وَحَمِدْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَتِلْكَ زِيَادَتُهُ . وَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ . فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ جُمْهُورِهِمْ ."([1] )
فنسب ما قرره هنا إلى أهل السنة وهذا منه كان في معرض التقرير ما تنازع فيه الناس في اسم المؤمن والإيمان
ثانيا : يقول العلامة المجاهد الشيخ عبيد بن عبدالله الجابري ـ حفظه الله ـ في " تحذير المحب والرفيق من سلوك بنيات الطريق " : (( وإن احتج محتج في الدفاع عن هذا القول، قائلاً: لما تنقد هذه العبارة: «مرجئة أهل السنة»، وقد قالها من قالها من أهل العلم الكبار؟.
فالجواب: يتوجه إليك يا هذا عدة أسئلة:
أولاً: هل سبق إلى هذا القول من ذكرتَ أحدٌ من أئمة السلف في القرون المفضلة ؟!
فإن قلت: نعم.
وجب عليك الدليل!
وإن قلت: لا.
وافقتنا في النقد شئت أم أبيت.
وثانياً: هل ترى الإرجاء بدعة أو سنة؟
فإن قلت بالأول؛ كنت معي و وجب عليك التسليم للنقد، وإن قلت بالثاني؛ خالفت إجماع السلف من أئمة العلم والدين والإيمان.
وأقول لك أخيرا: أما تعلم يا بني أنك بوصفك مرجئة الفقهاء بأنهم مرجئة أهل السنة قد فتحت الباب على مصراعيه أمام كل من يبرر لنحلة ضالة, أن يقول على سبيل المثال: خوارج أهل السنة, جهمية أهل السنة, معتزلة أهل السنة , وهلم جرا. فليتك تفطنت. )) اهـ
قلت : هذه لعمري إنها لكلمات عظيمات من ناصح رفيق ، تكتب بماء الذهب يا دكتور لو كنت تحترم الحق ومن هو أكبر منك علما وسنا !!
يا ريت يا دكتور لو كنت ممن يقرأ فيستفيد ، وممن ينظر في مقالات خصمه بعين الإنصاف بعيد عن التكلف والإعتساف ، ممن قد عناهم الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في نصيحته الذهبية : (( فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك من النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
وقال آخر :
نظروا بعين عداوة لو أنها ... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا
فإذا كان هذا في نظر العين الذي يدرك الحسوسات ولا يتمكن من المكابرة فيها فما الظن بنظر القلب الذي يدرك المعاني التي هي عرضة المكابرة ؟!
والله المستعان على معرفة الحق وقبوله ورد الباطل وعدم الاغترار به )) ([2] ) ا.هـ
لانجلت كثير من الحقائق العلمية وارتفع اللبس عن الحيران وأرتاح أهل السنة من هذا التشغيب والتكلف المذموم والتنطع الذي ما يجنى منه الصف السلفي إلا الويلات والمحن والتمزق والاختلاف كما هو الواقع المشاهد
وإلا فهذه المسألة التي خاض فيها الدكتور ـ وفقنا الله وإياه لإتباع الحق واحترامه ـ وما كان من جنسها وفي معناها ،أن أهل العلم وعقلاء الأمة يتحرجون ويحتاطون في إثارتها ونشرها وتوزيعها على عامة الأمة صغيرها وكبيرها ، جاهلها ومبتدعها، فهي مما تثير الحيرة والاضطراب وتخلق القلق في العامة والدهماء ، وهي معول أهل البدع على أهل السنة فهم أسعد وأفرح بهذه الشنشنة والتشغيبة التي آثرها الدكتور ، فما وصل إلينا أن أئمة الدعوة تكلموا عنها وقعدوا وأصلوا من أجلها ووقفوا عندها وقفة الدكتور، فهي وإن مرت في دروسهم وذكرت في طيات كتاباتهم ، تذكر على سبيل تقرير الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة وبيان ما يضاده من المناهج المخالفة له في هذا الباب ومنها مرجئة الفقهاء ، فهم وإن ذُكروا يُذكرون على سبيل الذم والمخالفة والمجانبة لمنهج السلف الصالح ، أما تبديعهم ما تبديعهم فقد رأى أئمتنا أن هذا محتفظ ومدفون في مظانه وأماكنه من كتب التاريخ والتراجم والسير لا يطلع عليه إلا أفراد الأمة ممن شأنهم الطلب والتحصيل والفهم والتحقيق لا عامة الأمة وجهالتها ، لا يحتاج إلى إظهاره وإبرازه للعامة حتى يحدث البلبة في الأمة وليس من المصلحة التنقيب عليه إلا ما أدعت الحاجة إلى ذلك من إظهار الحق الذي خالف فيه القوم لكي لا يغتر بهم من يغتر، أما أن يذكروهم من باب الإعذار لغيرهم ممن قد وقع في البدعة والضلالة فيقاس عليهم ، فهذا مما لم يخطر في بال أحد من أئمة السنة الذين صاحوا على مرجئة الفقهاء وشنوا عليهم الغارات ، بل إخماد فتنتهم أرحم بالأمة الإسلامية ، وخاصة في هذه الآونة التي تكالب فيها أعداء السلفية على أصولها وأهلها ولبسوا لبوس السلفية لهذا الغرض ، فهم أفرح بكلام الدكتور وتقرعيونهم به ويرفع فوق رؤوسهم من أجل هذا ، فهم يتمنون أن يجدوا من يُخرج لهم ما هو مدفون مما يخدمهم ، وإذا كان كذلك فما أحوج الدكتور إلى عقل علماء الحنفية الذين قال فيهم العلامة عبدالرحمن المعلمي ـ رحمه الله ـ في كتابه " التنكيل " (1 / 107 ) : ((فأما سكوت من قبلهما من علماء الحنفية عن الرد على الخطيب مع ردهم على غيره فلأنهم أعقل منهما ومن الأستاذ ، إنما ردوا على رسائل صغيرة من شأنها أن تشيع وتذيع فأما ما في ذاك الموضع من ( تاريخ بغداد ) فرأوا أنه مدفون في كتاب كبير لا يقف عليه إلا الأفراد فتكلف الجواب إنما هو سعي في انتشار ذلك واشتهاره فعلموا أن السكوت أسلم ولما خالفهم الأستاذ وقع فيما تراه وعلى أهلها تجني براقش )) ا.هـ
وذلك أن هذه اللجلجة التي عليها الدكتور ما هي إلا مكابرة ، لا ترضي أهل الحديث والسنة الذين يسعون في الحفاظ والدفاع عن تراث أجدادهم وسلفهم أئمة الحديث والأثر المتمثل في الذب عن السنة وأصولها وجهاد أهل البدع والأهواء .
فبالله عليكم يا أيها مشايخنا أهل السنة والجماعة ويا عقلاء الأمة فهل هذه المكابرة التي عليها الدكتور يرضى بها أئمة السلف ، أهل الحديث والسنة والجماعة من إبراهيم النخعي والزهري والأوزاعي ويحيى بن أبي كثير وقتادة وشريك القاضي وسفيان الثوري وميمون بن مهران وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعبدالله بن المبارك وغيرهم من أئمة السلف رحمهم الله الذين صاحوا على مرجئة الفقهاء وبدعوهم ؟!
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في كتابه " الإيمان " ( 261 ـ 262 ) : ((قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الأزارقة . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ . وَقَالَ الأوزاعي : كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ . وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي - وَذَكَرَ الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ - : هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا وَلَكِنَّ الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري وَقَالَ قتادة : إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ . وَسُئِلَ مَيْمُونُ بْنُ مهران عَنْ كَلَامِ " الْمُرْجِئَةِ " فَقَالَ : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرِّ الهمداني : أَلَا تَسْتَحِي مِنْ رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُقَالُ لَهُ : الْحَسَنُ . وَقَالَ زاذان : أَتَيْنَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقُلْنَا : مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت ؟ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مُتّ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ ؛ وَلَا كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذْ كانت أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . )) ا.هـ ([3] )
فهل ننسف ما دونه أئمة الحديث في كتب التراجم والسير والتاريخ في شأن القوم ونذره في الرياح !!؟ ونسقط ذلك الجهاد العظيم البطولي الذي قام به أئمتنا الذين حفظ الله بهم دينه الحنيف ، وعقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان ، من يقول ذلك ؟
نعم أهل البدع والأهواء يود أحدهم أن ينسف ذلك التراث ويدفن نهائيا ، ويسحب علم الجرح والتعديل وكتبه الذي خدمته من رفوف المكتبة الإسلامية ليخلى لهم الجو ، ويخلي بينهم وبين شباب الأمة .
أما أهل السنة والجماعة فتراث سلفهم الصالح على العين والرأس ، بل حياتهم وعزهم في المحافظة عليه والدفاع عنه ، فليس لهم سبيل النجاة والفلاح إلا من طريق اقتفاء آثار سبيل سلفهم الصالح والسير على سيرهم ، فكيف يريد الدكتور الآن أن يجعل حائلا وحاجزا بين أخر هذه الأمة وأولها التي مادة حياتها في هذا الأول !! من يسلم لك بذلك يا دكتور ؟؟
يا دكتور من خالف منهج أهل السنة والجماعة فقد خالف كائنا من كان فإن كان حيا يتوب من خطئه وإن مات تبقى مخالفته مدونة في ترجمته لا أحد يرفعها عنه ، حتى وإن أعذرناه وعذره الله فأمره إلى الله تعالى كما قال الإمام الذهبي رحمه الله عند ترجمة الإمام قتادة بن دعامة رحمه الله لما اعتذر عنه فيما اتهم به من القدر فقال في ( 4 / 493) : (( قد اعتذرنا عنه وعن أمثاله فإن الله عذرهم فيا حبذا وإن هو عذبهم فإن الله لا يظلم الناس شيئا ألا له الخلق والأمر )) ا.هـ
وإذا كان كذلك فلا نتخذ مخالفتهم وإعذار من عذرهم فيها منهجا وطريقا يحمى به المناهج العصرية المحدثة من السرورية والحدادية والمأربية والحلبية ، فلا أحد من عقلاء أهل السنة يقول بهذا .
فما وقع لأولئك الأئمة من المخالفات أهون وأهون بكثير مما أحدثه وأبتدعه المتحزبة هذا الزمان من البدع والضلال ومع ذلك ما سكت عنهم أهل زمانهم سواء من أقرانهم أو ممن أتى من بعدهم ، بل ومن تلامذتهم الذين سمعوا منهم ، فقد صاحوا عليهم ورموهم بالبدعة والهوى ، وما أنشئت وأسست تلك القواعد الباطلة والتأصيلات الضالة للدفاع عنهم ولإعذارهم كما يريده وصيره السفسطائية والمتحزبة هذا الزمان !!
وبهذا يظهر أن قولك : "فمما شنع به الدكتور محمد بن هادي تبعا للشيخ عبيد" أنها مكابرة جائرة ومجازفة بائرة ظهر كسادها للعقلاء ولله الحمد والمنة .
ثم يا دكتور بعملك هذا الذي لا تحسد عليه قد أفرحت صاحب كل نحلة وكما قال شيخنا وإمامنا عبيد بن عبدالله الجابري حفظه الله : ((فتحت الباب على مصراعيه أمام كل من يبرر لنحلة ضالة, أن يقول على سبيل المثال: خوارج أهل السنة, جهمية أهل السنة, معتزلة أهل السنة , وهلم جرا. فليتك تفطنت.))
فإذا كنت أنت هونت من هذه المسألة بباعث ارتكازك على مقولة من قال من الأئمة : إن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وسائر أهل السنة ليس خلافا حقيقيا وإنما هو لفظي .
مع إنها على خلاف ما عليه أهل التحقيق وممن شأنهم التدقيق ، وما كان عليه السلف الصالح ، فهي من أكبر الذرائع التي تحمى بها المناهج البدعية فشأنها شأن بدعة مرجئة الفقهاء التي قال عنها شيخ الإسلام ([4] ): (( فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ " الْإِرْجَاءِ ")) ا.هـ
وهكذا مشايخنا قد التمسوا الخطورة من مقولتك هذه على منهجنا السلفي ، فأعظموا فيها القول وحق لهم ذلك جزاهم الله خيرا، بل لابد من جميع مشايخ وأئمة السنة والجماعة أن ينتبهوا لهذا التقعيد الخطير مما هو ذريعة لحماية البدع المعاصرة من القطبية والسرورية والحدادية والمأربية والحلبية الذين لبسوا لبوس السلفية فهم أضر على السلفية من العدو الخارجي والله المستعان
ثالثا : قولك : (( أن سياق الكلام الذي ذكرت فيه العبارتين السابقتين كان في مقام التحذير من التشديد في التبديع وإخراج بعض أهل السنة بمجرد بعض أخطائهم في الاجتهاد ـ كما شاع هذا المنهج بين بعض المنتسبين للسنة ))
أقول : إن كلامك هذا قبل ما يتوجه إلى مشايخنا فهو قبل كل الشيء متوجه إلى ذم أئمة السلف الذين بدعوا مرجئة الفقهاء وقد عرفت من هم فانتبه لهذا .
وإلا فلو كان ما وقع فيه مرجئة الفقهاء من موارد الاجتهاد ما ضلالهم سلفنا الصالح وحاشاهم من ذلك فهم أعلم وأحكم وأسلم ممن جاء من بعدهم ، فمن فهم هذا وقنع به فذاك ، وإلا فينبغي أن يدع تلك المعارضات والوساوس التي هي بحر من الوحل لا ساحل لها ، إلا أن يرجع ويطمئن ما كان عليه أئمتنا من الهدي القويم والمنهج المستقيم فيربط رقبته في عجلتهم ويلتمس غبار قافلتهم .
وقبل أن نطوي هذا الجزء مع الشيخ إبراهيم ـ أصلحه الله ـ نقول له :
1 ـ من هم بعض أهل السنة الذين أخرجوا من السنة ببعض أخطائهم ؟
2 ـ وما هي مقدار وكمية وعدد ونوع الأخطاء التي أخرجوا من أجلها من السنة ؟
هل هم القطبية والسرورية والحدادية والمأربي والحلبي ؟!
فهؤلاء عندهم طامات ما ليس عند مرجئة الفقهاء
3 ـ ومن أخرجهم ؟
إن كنت تريد أئمة السنة من أمثال ابن باز والألباني وآمان الجامي ومقبل والنجمي وربيع والفوزان واللحيدان وزيد وعبيد ومحمد بن هادي ومن كان في طبقتهم ممن هم أهل لذلك الذين تكلموا في القطبية والسرورية والحدادية ومن سلك مسلكهم من المناهج البدعية ، فهذه مصيبة وقعت فيها يا دكتور !!
وإلا فلو كنت تريد غيرهم من الشباب الطائش كما هو عليه صنيع سفهاء وغوغاء الحدادية والمأربي والحلبي فهذا تشكر عليه ، ولكن هذا بعيد لما أنت عليه من حملتك الجائرة البائرة على مشايخنا الذين وظفوا أعمارهم وأقلامهم في الذب عن السنة والدفاع عنها .
أما شباب أهل السنة والجماعة فهم تبع لأحكام أئمتهم لا ينقلون إلا ما قاله وذكره وسمعوه من أئمتهم لقوله تعالى : {فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}[الأنبياء:7 ] ، فهم أنزه وأكبر من أن يقع منهم الفتن وحاشاهم من ذلك ، وإن صدر وحصل شيء من الفتن من بعض الشباب ممن يتمسح بهذا المنهج المبارك فلا يحسب على المنهج السلفي ومنهج علمائنا ، فلتحصر نصيحتك يا دكتور في هؤلاء فتكون بذلك قد نصحت وصدقت وخاصة ما عليه منتديات الحدادية والحلبي والحمد لله رب العالمين
كتبه أخوكم في الله : بشير بن عبدالقادر بن سلة الجزائري
([1]) "مجموع الفتاوى " (7 / 505) ، كتاب " الإيمان " ( 330 ـ 331 )
([2]) "مفتاح دار السعادة " (1 / 141)
[3]) " مجموع الفتاوى " (7 / 394 ـ 395)
([4]) كتاب " الإيمان " ( 261 )