ذا مبحث من رسالة " أسس منهج السلف في الدعوة إلى الله " إعداد: فوّاز بن هليل بن رباح السّحيمِّي، والتي نال بها درجة الماجستير من كلية الدعوة بالمدينة النبوية والتابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود.
قدم له سماحة العلامة: صالح بن فوزان الفوزان - فضيلة الشيخ: عُبيد بن عبدالله الجابري - فضيلة الشيخ: علي بن عبدالرحمن الحذيفي - فضيلة الشيخ: صالح بن عبدالله الحذيفي.
أسس منهج السلف في الدعوة إلى الله
دار ابن القيم – دار ابن عفان: الطبعة الأولى 1423هـ
ص(149 – 154)
الفصل الثاني: في الوسائل الشرعية للدعوة على ضوء الأسس السلفية، وبيان وجه المخالفة فيها
المبحث الرابع
أسلوب الجهاد
تقريره، ومن يُستخدم في حقه
• المعنى اللغوي والاصطلاحي:
" يُطلق الجهاد في اللغة على الجهد والطاقة والمنعة والوُسع، ويُطلق على بلوغ الغاية في الأمر، وعلى المبالغة في استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو فعل"(1).
وأما معناه اصطلاحا:
فله ارتباط قوي بالمعنى اللغوي حيث يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: " بذل الجهد في قتال الكفّار، ويطلق -أيضا- على مجاهدة النفس والشيطان"(2).
" والجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرّب به المتقرّبون، وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذلك إلا لِمَا يترّتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين وقمع الكافرين والمنافقين"(3).
وقد سمّاه الله –تعالى- تجارةً رابحة، وسببا في نجاة العبد في الدنيا والآخرة، حيث يقول -سبحانه-: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون" (4).
وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها"(5).
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: "لسان العرب": (396/2-397).
(2) "فتح الباري": (88/6).
(3) "مجموع الفتاوى ومقالات متنوعة": (430/2).
(4) الصف، الآيتان: 10،11.
(5) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، ح90/6/2792.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اغبرّت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسّه النار"(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(2).
فهذه الأحاديث وغيرها تدلّ على فضل الجهاد في سبيل الله، وما جعل الله فيه من الجور العظيمة، والتجارة الرابحة؛ ولن يكون ذلك حتى يكون جهاد المرء في سبيل الله لا في سُبل أخرى؛ كما في الحديث الصحيح الصريح: "لتكون كلمة الله هي العليا"؛ فهذا شرطٌ أساسيّ في صحّة الجهاد وكونه عبادةٌ يُتقرَّبُ بها إلى الله -عزّ وجل-.
يقول الحافظ ابن رجب –رحمه الله-:
"و الحاصل مما ذكر: أن القتال منشؤه القوّة العقليّة والقوّة الغضبية والقوّة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلاّ الأوّل"(3).
أطوارُه:
والجهاد مرّ على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: الإذن للمسلمين في القتال من غير أن يُلزموا بذلك؛ وذلك لقوله –تعالى-:"أُذِن للّذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإنّ الله على نصرِهم لقديرٌ"(4).
والمرحلة الثانية: قتال مَن قاتل من الكفار، والكفّ عن من كفّ منهم، لقوله -تعالى-:" وقاتِلوا في سبيل الله الّذين يُقاتلونكم ولا تَعتَدوا إنّ الله لا يُحِبُّ المُعتدِين"(5).
المرحلة الثالثة: الأمر بقتال المشركين مطلقا حتى يكون الدين لله، قال تعالى: "وقاتِلوا المُشرِكين كافّة "(6).
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد, ح 110/6/2811.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد, ح108/6/2810.
(3) "الفتح": (77/6) .
(4) الحج,آية: 39.
(5) البقرة, آية:190.
(6) التوبة, آية: 36.
ورجّح الشيخ العلاّمة ابن باز -رحمه الله-: أن المرحلة الثالثة ليست منسوخة،ولكنها تبقى على حسب حال المسلمين(1).
و لا يقتصر الجهاد على جهاد الأفعال بل له صورٌ عديدة تُساند الجهاد الفعلي، ومن ذلك الجهاد بالحجّة و البرهان، يقول ابن القيِّم -رحمه الله- في بيان ذلك: "فإن الله -سبحانه- أقامَ دين الإسلام بالحجة و البرهان والسيف والسنان؛ فكلاهما في نصرة الدين أخوان شقيقان، وكلاهما شجيعٌ لا يتمّ إلا بشجاعة القلب وثبات الجنان "(2).
ويقول –رحمه الله-: "فالفروسية فروسيتان: فروسية العلم والبيان، وفروسية الرمي والطعن؛ ولمّا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلْق في الفروسيتين فتحوا القلوب بالحجة والبرهان والبلاد بالسيف والسنانّ"(3).
فبيان الحق للناس ودعوتهم إليه والردّ على أهل البدع الملبّسين على الناس كله من أنواع الجهاد المشروع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه اله-:
"الراد على أهل البدع مجاهد"(4).
ويقول –رحمه الله-: "وإذا كان مبتدعا يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة أو سلك طريقا يخالف الكتاب والسنة ويُخاف أن يُضلّ الرجل الناس بذلك يُبيّن أمرُه للناس ليتّقوا ضلالَه ويعلموا حالَه"(5).
فتقويم أهل البدع والضلال بالحجّة و البرهان، وبيان وجه الحقِّ للناس، وتبصيرهم بخطر عقائد أهل البدع، أمرٌ واجبٌ "إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجبٌ على الكفاية باتّفاق المسلمين؛ ولولا من يقيمُه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فسادُه أعظمَ من فساد استيلاء العدوّ من أهل الحرب؛ فإنّ هؤلاء إذا استولوا لم يُفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تَبَعا، وأما أولئك فهم
ــــــــــــــــــــ
(1)"فضل الجهاد والمجاهدين": (440/2).
(2)"الفروسيّة" لابن القيم (ص2 ).
(3)"الفروسيّة" لابن القيم (ص19).
(4)"الفتاوى": (13/4).
(5)"المجموع" :(221/2.
يُفسدون القلوب تبعا"(1).
فإذا عُرف هذا فليُعلم أن كثيرًا من الطوائف المخالفة للسنة قد حوّلت معنى الجهاد الشرعي إلى طرق وأساليب على حسب ما تدينُ به هذه الطوائف من بدع ومخالفات.
وأوّلُ فرقةٍ حوّلت معنى الجهاد الشرعي إلى طرق مبتدعة وأساليب مخالفة هي فرقة الخوارج؛ التي عظم في السنة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنتهم وسوء أفكارهم وما فيها من فساد على البلاد و العباد؛ حيث أقدموا على تكفير المسلمين أو تكفير حكّامهم، ثم ادّعوا مجاهدتهم بحجّة أنهم كفّار أو منافقون.
يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في سياق حديثه عن الخوارج:
"فإنه(2) أوّل بدعة ظهرت في الإسلام، فكفّر أهلُها المسلمين، واستحلّوا دمائهم وأموالهم؛ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة في ذمّهم والأمر بقتالهم"(3).
وكثيرٌ من هؤلاء وجّهوا سهامهم نحو بلاد المسلمين حربا وتخريبا، بلبلة وفوضى؛ وهذا عينُ ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عنهم.
ويقول أيضاً: "ومن أعظم ما ذم به النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج قولُه فيهم: "يقتلون أهلَ الإسلام ويدعون أهل
الأوثان"...فهؤلاء الخوارج المارقون من أعظم ما ذمّهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون
أهل الأوثان)(4).
يقول البخاري -رحمه الله- فيهم:
" وكان ابن عمر رضي الله عنه يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين"(5).
وما وقع هؤلاء فيما وقعوا فيه إلا لسوء فهمهم الدين والقرآن؛ فقد نظروا إلى الكتاب والسنة نظرتهم المنحرفة، فحرّفوا وأوَّلوا، وابتدعوا في الدين
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) "الفتاوى":(232/2.
(2) يعني بذلك مسألة تكفير المسلمين بالكبيرة.
(3)"الفتاوى": (31/13).
(4)"الفتاوى": (528/2.
(5)"صحيح البخاري": في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (ج14 /ص282 ).
ما ليس منه، كما قال ابن تيميّة -رحمه الله-:
"وكانت البدع الأولى مثل "بدع الخوارج" إنما هي من سوء فهمهم للقرآن"(1).
ومما يؤكِّد انحراف نهجهم في الجهاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم من شرِّهم بخروجهم و ثورتهم، فقد كان من أمر هؤلاء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم فقام رجل فقال له: "اتق الله يا محمد"، وفي رواية "اعدل يا محمد"؛فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن يطع الله إن عصيتُه؟"؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من ضئضيء هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهلَ الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد"(2).
وقد ابتليت الأمة الإسلاميّة بمن يحمل مثل هذه الأفكار قديما وحديثا، بل ويسلكون في نشرها في الأمّة شتّى الأساليب والطرق باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة، وباسم الجهاد تارة، وهكذا مما هو لباس حق لجوهرٍ باطل.
وكلُّ من قامت فيه تلك المعاني الموجودة في الخوارج الأول أُلحق بهم، كما قال ابن تيمية-رحمه الله-:
"فكلُّ من وُجِدت فيه تلك المعاني أُلحق بهم؛ لأنَّ التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذْ ذاك إلى تعيينهم"(3).
ومن الطرق التي يبدأ بها هؤلاء في إفسادهم؛ طريقُ التهييج والإثارة والشغب على وليّ أمر المسلمين باسم الجهاد؛ وعلى حسب تسميتهم لها "تكوين القاعدة الشعبية"، والتي من خلالها ينطلقون.
وهي بلا شك طريقٌ قوليٌّ يُلحق بالطريق الفعلي سواء بسواء، بل هو بدايةٌ للطريق الفعلي؛ فلا فعل إلاَّ بعد قول وعزيمة.
يقول شيخ الإسلام –رحمه الله- مبيِّنا هذا المعنى:
ـــــــــــــــــــــــــ
(1)"الفتاوى": (30/13).
(2)أخرجه مسلم في كتاب الزكاة: (227/7,ح1064 ).
(3)"الفتاوى": (476/2.
"وذلك الشجار بالألسنة والأيدي أصلٌ لما جرى بين الأمّة بعد ذلك في الدين والدنيا؛ فليعتبر العاقل بذلك"(1).
ويقول الشيخ العلاّمة الفوزان -حفظه الله-:
"شحن الغلّ والحقد على ولاة الأمور في قلوب العامّة هو من عمل المفسدين، الذين يريدون إشاعة الفوضى، وتفكيك المجتمع الإسلامي"(2).
فعلى المسلم الحق أن يكون فاهما دينَه فهما صحيحا على أسس المنهج السلفي، حتى يسلم من جميع هذه التصرفّات والأفكار الكثيرة المنافية لمنهج سلف الأمّة؛ فمن عرف الحق وبان له سبيلُه عرف من خلال ذلك طريق الشرّ، وبانت له طرُقُه.
ــــــــــــــــــ
(1)"الفتاوى": (51/35).
(2)"الأجوبة المفيدة": (ص132).